تكشف مؤشرات عديدة عن أن اتجاه المصالحات المحلية بين مدن أو مناطق أو جماعات كانت متصارعة فيما بينها، لفترة من الزمن، بدأ يتصاعد في عدد من بؤر الصراعات بالشرق الأوسط، مثل ليبيا وسوريا وأفغانستان، وذلك عبر توقيع مواثيق أو التوصل إلى اتفاقات سلام ووقف إطلاق النار يقودها وزراء للمصالحة وعمداء بلديات ومجالس أعيان وممثلو مناطق ورجال دين إسلامي ومسيحي، ويشارك في جلساتها تجار في بعض الأحيان. وتتم هذه المصالحات من أسفل إلى أعلى على مستوى المجتمع المحليReconciliation from bottom-up.
ورغم محورية تلك الآلية في السير باتجاه المصالحة الوطنية وتفكيك تعقيدات الصراعات المسلحة ومواجهة الجماعات الإرهابية وتأكيد سيطرة الجيوش النظامية، بما يجعل دورها أقرب إلى سلام الوكالة Proxy Peace، إلا أنها تواجه عقبات ضاغطة تؤثر على نجاحها مثل بقاء مرارات الماضي، واستمرار إطلاق النيران، ووجود قضايا عالقة، واستهداف أعضاء لجان المصالحة، وعدم التنسيق بين الجهات الفاعلة للمصالحة، على نحو يجعل مخرجاتها أقرب إلى تجزئة التسوية.
مؤشرات دالة:
شهدت الفترة القليلة الماضية توجهًا متصاعدًا لإجراء مصالحات مناطقية، في عدد من بؤر النزاعات بالإقليم، على نحو ما توضحه النقاط التالية:
1- إجراء مصالحة مناطقية في غرب ليبيا: وقعت مدينتا تاورغاء ومصراتة المتجاورتان، في 3 يونيو الجاري، على ميثاق صلح بينهما، بحضور عمداء بلديات ومشايخ وأعيان قبائل من كل ربوع البلاد وممثلين عن المدينتين، مما ينهي عداءًا امتد لسبع سنوات متواصلة، ويمهد لعودة أهالي تاورغاء النازحين من منازلهم بعد سقوط نظام معمر القذافي في أعقاب إضرام النيران فيها بسبب خلافات مع أهالي مصراتة. ورغم أنه لا توجد إحصاءات رسمية بشأن أعداد مهجري تاورغاء، لكن مصادر غير رسمية تقدرهم بنحو 40 ألف نسمة، كانوا يقيمون في مخيمات في مدن متفرقة مثل طرابلس وسبها وبنغازي.
وتجدر الإشارة إلى أن تاورغاء كانت داعمة لنظام القذافي ومناهضة للثوار في مصراتة، وفور سقوطه هاجمت كتائب مصراتة المدينة، عقابًا لها على اتهامات سابقة بـ"الاعتداء على مدينتهم واغتصاب نسائهم"، وتم تهجير كامل المدينة بقوة السلاح. وعبر رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج، الذي صدَّق على الاتفاق، عن أمله "في أن تكون عودة أهالي تاورغاء إلى مدينتهم بداية لعودة جميع النازحين والمهجرين داخل البلاد وخارجها إلى مدنهم".
ويشير الميثاق إلى ترتيبات الدخول إلى تاورغاء، وقصرها على من كانوا يقيمون بشكل فعلي فيها قبل ثورة 17 فبراير 2011 بحيث تتولى المنطقة العسكرية الوسطى ومديرية أمن مصراتة وضع الترتيبات الأمنية اللازمة للعودة. وكانت لجنة مشتركة لحل أزمة مصراتة وتاورغاء قد تأسست في أغسطس 2015، بناءً على اتفاق بين المجلس البلدي في مصراتة والمجلس المحلي في تاورغاء، واجتمعت عدة مرات في طرابلس وتونس وجنيف بدعم من حكومتى ألمانيا وسويسرا.
وتم التوصل إلى ما يشبه خريطة طريق للحل، والاتفاق على المعايير اللازمة لتعويض المتضررين، وتحديد القيم المالية اللازمة لجبر الضرر. كما وضعت اللجنة برنامجًا قابلاً للتنفيذ فيما يخص إعادة التأهيل لتاورغاء من مرافق أساسية، وفتح الطرق، وتحديد المناطق الملوثة بالألغام، وصيانة وتهيئة المستشفيات، ولكن هذه النقاط لاتزال تراوح مكانها ولم تدخل حيز التنفيذ العملي.
2- مفاوضات سرية بين "طالبان" وكابول لوقف إطلاق النار: وهو ما أكده القائد العام للقوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان الجنرال جون نيكولسون، في 30 مايو الماضي، بقوله أن "هناك الكثير من الأنشطة الدبلوماسية والحوارات التي تجرى في الكواليس من مستويات متوسطة وعالية من حركة طالبان مع مسئولين أفغان بهدف التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار".
وكان الرئيس الأفغاني أشرف غني قد عرض على "طالبان"، في نهاية فبراير الماضي، إجراء محادثات سلام يمكن على أثرها الاعتراف بالحركة المتمردة كحزب سياسي، وهو أمر مشروط بموافقتها على وقف إطلاق النار والاعتراف بدستور 2004. غير أن الحركة لم ترد على هذا العرض، بل ضاعفت من عملياتها الإرهابية ضد المدنيين.
3- حض النظام السوري مناطق عدة على المصالحة المحلية: تبنى النظام السوري سياسة تشكيل "وفد للمصالحة" في كل منطقة، يتألف من سكان محليين ومسئولين في النظام من دمشق يكون بمقدورهم لقاء الجهات الفاعلة المدنية والعسكرية من المعارضة، بالإضافة إلى التجار ورجال الدين الموالين للمؤسسة الدينية الرسمية. وفي حال تعذر إرسال أعضاء هذا الوفد قد يكون هناك مسلك آخر للوصول إليهم.
وقد ألقت الطائرات المروحية التابعة لقوات الجيش النظامي، في 16 مايو الماضي، منشورات على بلدة بصر الحرير بريف درعا الشرقي ومناطق أخرى في محيط بلدتى الحراك والصورة في الريف ذاته، وتضمنت دعوات إلى السلم والمصالحة المحلية وإيقاف القتال والعودة إلى حضن الوطن وتوفير الجهد لإعادة بناء سوريا، وفقًا لما ذكره المرصد السوري لحقوق الإنسان.
ويعد هذا التوجه امتدادًا لاتفاقات مماثلة للمصالحة المحلية في ريف حماة الشرقي، عادت بعدها عشرات العائلات إلى منازلها في قرى البيرة والحويجة وقصر المخرم وجنينة غربية. كما تم التوصل إلى مصالحة مناطقية في ريف حمص الشمالي، وانضمت 18 مدينة وقرية وبلدة في محافظة درعا، في مارس الماضي، إلى نظام المصالحات المحلية ووقف الأعمال القتالية، وذلك خلال اجتماع عقد في صالة المجمع الحكومي بدرعا بمشاركة رؤساء مجالس المدن وممثلين عن مركز التنسيق الروسي في حميميم. وقد نص الاتفاق على دعم الجيش السوري في محاربة الإرهاب ورفع العلم السوري على جميع المؤسسات الحكومية ومساعدة السلطات المحلية والشرطة في إعادة الحياة الآمنة إلى القرى والبلدات.
دوافع مُلِحَّة:
يمكن تفسير ازدياد التوجه نحو المصالحات المحلية المناطقية في عدد من بؤر النزاعات بالإقليم، في ضوء عوامل عديدة هى:
1- إرهاصات جنينية نحو المصالحة الوطنية: قد تكون المصالحات المحلية بداية مسار شاق وممتد نحو المصالحة الوطنية الشاملة، وتتم دون انتظار لإنشاء المؤسسات الوطنية المتفق عليها نتيجة التسوية، وتبدأ من القاعدة الشعبية. وينظر إلى هذا النمط من المصالحة باعتباره مفتاح النجاح، حيث يؤدي لتحقيق التهدئة والاستقرار بشكل تدريجي.
وتجدر الإشارة هنا إلى تصريح للرئيس بشار الأسد، في 15 فبراير 2016، يؤكد فيه على أن "اتفاقات المصالحة المحلية هى الحل لأزمة سوريا". كما أكد أسامة بادي الناطق باسم مجلس مصراتة البلدي بعد إرهاصات المصالحة المحلية مع تاورغاء على أن "الاتفاق سيكون خطوة على طريق المصالحة الوطنية الشاملة ولبنة من لبنات الحوار الليبي الليبي الناجح".
2- تفكيك تعقيدات الصراعات المسلحة: تعد المصالحات المحلية من أهم مداخل تسوية الصراعات الداخلية المعقدة في دول الإقليم في ظل التركيز على تعدد الأطراف الجهوية والعشائرية والطائفية المنخرطة في الصراعات وتداخل وتعدد مسارات الصراع واتجاهات العداء المتبادل بين مختلف الفرقاء السياسيين والمجتمعيين ذوي المصالح المتعارضة.
وفي هذا الصدد تمكنت المصالحات المحلية والجزئية في بعض الدول من تحقيق الاستقرار واستعادة الأمن في بعض المدن وإنهاء الاقتتال الداخلي بين بعض العشائر والقبائل فضلاً عن عزل التنظيمات الإرهابية المتطرفة في مناطق محددة وتكوين تحالفات داخلية لمواجهة التهديدات المشتركة، ثم المضى قدمًا في مسار المصالحة الشاملة.
3- تأكيد سيطرة الجيوش النظامية: يهدف النظام السوري، مثلاً، من إنجاح اتفاق ما سمى بمناطق المصالحة المحلية ووقف الأعمال القتالية، إلى فرض سيطرته على عشرات البلدات والمدن، وخاصة في الغوطة الشرقية وريف حماة وريف درعا، من دون اشتباكات، فضلاً عن إحلال سلطات محلية موالية له محل الهيئات الإدارية التي أنشأتها المعارضة.
وقد أشار وزير المصالحة المحلية علي حيدر، في 17 نوفمبر 2014، إلى أن المرحلة الأخيرة من مراحل المصالحة المحلية هى سحب السلاح من المجموعات المسلحة، إذ أنه لا يجوز بقاء هذا السلاح لأنه كالنار تحت الرماد وهو ما قد يتسبب بانتكاسة المصالحة، وأضاف: "إن هناك تواصلاً مع الأهالي في المناطق التي تخضع لسيطرة المسلحين ولولا وجود دولة لما انتفض الأهالي على المسلحين في عدة مناطق".
كما قال محمد المبشر رئيس مجلس أعيان ليبيا، في 7 فبراير 2018، أن "عملية التوافق السياسي في ليبيا تحتاج إلى جهد كبير جدًا، خاصة في ظل كثرة الخلافات والانقسامات والتجاذبات المجتمعية والسياسية، والعمل بشأن المصالحة يجب أن يسبقه إعدام للسلاح في كافة أنحاء ليبيا نظرًا لكون السلاح أصبح أداة لقتال الشعب بعضه لا للدفاع عن أرضه وحمايتها".
4- مواجهة الجماعات الإرهابية: ناقش أعضاء لجنة المصالحة الوطنية في مجلس الشعب السوري مع لجنة المصالحة المحلية بمدينة صوران بحماة سبل تعزيز المصالحات المحلية في المدينة، بما يزيد من قوة المناعة المجتمعية في مواجهة الجماعات الإرهابية التي تحاول التسلل إلى المدينة.
إشكاليات ضاغطة:
يواجه إنجاز تحقيق المصالحة المحلية في بؤر النزاعات بالإقليم تحديات عدة، تتمثل في:
1- بقاء مرارات الماضي: ترفض بعض الأطراف في تاورغاء بنود الاتفاق المكون من 14 بندًا، وترى أنه يصب في صالح مصراتة، في حين توافق أطراف أخرى عليه. فعلى سبيل المثال، تكشف أحاديث بعض مواطني مدينة تاورغاء إلى الصحف العربية ومنها صحيفة "الشرق الأوسط" عن اعتراضهم على الاتفاق مع مصراتة بالقول: "إن بنود الميثاق لا تلق قبولاً لدى أبناء المدينة، ولا تعبر عن حجم معاناتهم طوال السنوات الماضية".
2- استمرار إطلاق النيران: يرتبط أحد الأسئلة المركزية بكيفية تواصل المعارك بين أطراف المصالحات في الوقت نفسه الذي تجرى فيه مفاوضات التسوية، وهو ما ينطبق على الوضع الحالي في أفغانستان. وعلى الرغم من أن هناك خبرات تاريخية مقارنة تشير إلى إمكان تحقيق ذلك، على نحو ما جرى في كولومبيا قبل توقيع حكومتها اتفاق سلام مع متمردي حركة "فارك"، إلا أن مثل هذه الحالة ليست قابلة للاستنساخ بالضرورة.
3- وجود قضايا عالقة: هناك ملفات ضاغطة قد تمثل قيدًا على نجاح هذا النمط من المصالحات، مثل المفقودين والمعتقلين من أبناء بعض المدن السورية ومحيطها الجغرافي وفرض التجنيد الإجباري على الشباب وانتهاك مهلة الإخطار التي تبلغ مدتها ستة أشهر قبل التجنيد، على نحو يزيد من غياب الثقة بين عدد من أطراف الصراع.
4- استهداف أعضاء لجان المصالحة: في ظل وجود جماعات مصالح مستفيدة من بقاء عدم الاستقرار وسيادة الفوضى، إذ اغتالت جماعة إرهابية، في يناير الماضي، محمد عبدالعزيز الشحادات عضو لجنة المصالحة المحلية في داعل بريف درعا الشمالي، نظرًا لدوره النشط في مجال المصالحة في بلدته، على نحو يثير مخاوف لدى النشطاء في هذا المجال من الاستمرار في مساره.
5- عدم التنسيق بين الجهات الفاعلة للمصالحة: وهو ما يمثل إحدى العقبات التي يمكن أن تحول دون تنفيذ اتفاقات المصالحة المحلية في ليبيا، مثلاً، على نحو دعا البعض إلى تأسيس هيئة وطنية موحدة ومستقلة لدعم ورصد جميع الجهود الرامية إلى المصالحة على المستوى المحلي.
تجزئة التسوية:
خلاصة القول، إن ثمة إرهاصات لمصالحات محلية في عدد من بؤر الصراعات بالشرق الأوسط، تقودها جهات داخل الدولة بمشاركة فاعلين اجتماعيين، وتهدف إلى الوقاية من النزاعات وإحلال السلام وإعادة الإعمار في أثناء أو ما بعد النزاعات بالإقليم، إلا أن هذه المصالحات تواجه تحديات ضاغطة مثل غياب الثقة المتبادلة وضعف وهشاشة وقف إطلاق النار وتكرار انتهاكات شروط التسوية من جانب أطراف الصراع وعدم التصدي للقضايا المركزية المسببة له. ورغم نجاح الاتفاقيات في إنهاء العنف في المناطق التي جرى تنفيذها، إلا أنها قد تتعثر في معالجة جذور الصراع أو في إطلاق عملية مصالحة حقيقية من شأنها أن تؤدي إلى سلام مستدام.